فصل: تفسير الآيات (1- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في تخريج الأحاديث الواردة في السورة الكريمة:

قال الزيلعي:
سورة الناس حَدِيث وَاحد:
1570- عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد انْزِلْ على سورتان مَا أنزل على مثلهمَا وَإنَّك لن تقرأ سُورَة أحب وَلَا أَرْضَى عِنْد الله مِنْهُمَا».
قلت غَرِيب بِهَذَا اللَّفْظ.
وَرَوَى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: «الم تَرَ آيَات أنزلت هَذِه اللَّيْلَة لم ير مِثْلهنَّ قطّ {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} و{قل أعوذ بِرَبّ النَّاس}»
وَرَوَى ابْن حبَان فِي صَحِيحه فِي النَّوْع الأول من الْقسم الأول من حَدِيث اسْلَمْ بن عمرَان عَن عقبَة قال سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقول «لن يقرأ سُورَة أحب إِلَى الله وَلَا أبلغ من {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} و{قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} فَإِن اسْتَطَعْت أَلا تدعهما فِي صَلَاة فافعل» انْتَهَى. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الناس:
{قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس}. الاستعاذة في هذه السورة من شياطين الإنس والجن، وما يلقونه في الصدور من وساوس. ونحن لا ندرى كيف يتصرف الجن، ولكننا نشعر بما يطلبون منا وبرغبتنا فيه، ولذلك نلجأ إلى الرب الملك الإله كى يحفظنا. فتكرير صفات الله اعتراف بالفاقة ولجأ إلى القدير! {من شر الوسواس الخناس}. الخناس الذي يختفى ليؤذى وينتهز الفرصة للوثوب. والموسوس خبيث ماكر فينبغى الحذر منه. ويقول الله في موضع آخر: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا..}.
ويبدو أن شهوة الإنسىّ هي لذته في الفعل، وشهوة الجنى هي رغبته في الإغواء كما ورث عن إبليس. وهكذا يستمتع بعضهم ببعض. على أن الشياطين محرومة من كل سلطة تنفيذية. إنها لا تملك إلا الإغواء والمخادعة، فمن استجاب لها لا عذر له لاسيما بعد تحذيره وتنبيهه.. وهذه السورة تتحدث عن خطر الهواجس النفسية، وعن ضرورة النجاة منها. والمؤمن الذاكر لربه المثابر على حقه، يعيش داخل سور يحميه من النفس وهواجسها والشيطان ووساوسه. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.تفسير الآيات (1- 6):

قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
لما جاءت سورة الفلق للاستعاذة من شر ما خلق من جميع المضار البدنية وغيرها العامة للإنسان وغيره، وذلك هو جملة الشر الموجود في جميع الأكوان والأزمان، ثم وقع فيها التخصيص بشرور بأعيانها من الفاسق والساحر والحاسد، فكانت الاستعاذة فيها عامة للمصائب الخارجة التي ترجع إلى ظلم الغير، والمعايب الداخلة التي ترجع إلى ظلم النفس ولكنها في المصائب أظهر، وختمت بالحسد فعلم أنه أضر المصائب، وكان أصل ما بين الجن والإنس من العداوة الحسد، جاءت سورة الناس متضمنة للاستعاذة من شر خاص، وهو الوسواس، وهو أخص من مطلق الحاسد، ويرجع إلى المعايب الداخلة اللاحقة للنفوس البشرية التي أصلها كلها الوسوسة، وهي سبب الذنوب والمعاصي كلها، وهي من الجن أمكن وأضر، والشر كله يرجع إلى المصائب والمعايب، فقد تضمنت السورة كالفلق استعاذة ومستع إذا به ومستع إذا منه وأمرًا بإيجاد ذلك، فالأمر: {قل} والاسعتاذة {أعوذ} والمستعاذ به هو الله سبحانه وتعالى، لكن لما كانت صفة الربوبية من صفات كماله سبحان أليق بالحماية والإعانة والرعاية والخلق والتدبير والتربية والإصلاح، المتضمن للقدرة التامة والرحمة الواسعة، والإحسان الشامل والعلم الكامل، قال تعالى: {برب الناس} أي أعتصم به أي أسأله أن يكون عاصمًا لي من العدو أن يوقعني في المهالك، قال الملوي: والرب من له ملك الرق وجلب الخيرات من السماء والأرض وإبقاؤها، ودفع الشرور ورفعها، والنقل من النقص إلى الكمال، والتدبير العام العائد بالحفظ والتتميم على المربوب، وخص الإضافة بالمزلزلين المضطربين في الأبدان والأديان من الإنس والجان لخصوص المستعاذ منه، وهو الأضرار التي تعرض للنفوس العاقلة وتخصها، بخلاف ما في الفلق فإنه المضار البدنية التي تعم الإنسان وغيره.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: وجه تأخرها عن شقيقتها عموم الأولى وخصوص الثانية، ألا ترى عموم قوله: {من شر ما خلق} وإبهام {ما} وتنكير {غاسق} و{حاسد} والعهد فيها استعيذ من شره في سورة الناس وتعريفه ونعته، فبدأ بالعموم ثم أتبع بالخصوص ليكون أبلغ في تحصيل ما قصدت الاستعاذة منه، وأوفى بالمقصود، ونظير هذا في تقديم المعنى الأعم ثم إتباعه بالأخص بتناول الدقائق والجلائل قوله سبحانه وتعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم} في معنى الرحمن ومعنى الرحيم وأحد لا في عموم الصفة الأولى وكونها للمبالغة، وقد تعرض لبيان ذلك المفسرون ولذلك نظائر- انتهى.
ولما كان الرب الملك متقاربين في المفهوم، وكان الرب أقرب في المفهوم إلى اللطف والتربية، وكان الملك للقهر والاستيلاء وإظهار العدل ألزم، وكان الرب قد لا يكون ملكًا فلا يكون كامل التصرف، اقتضت البلاغة تقديم الأول وإتباعه الثاني، فقال تعالى: {ملك الناس} إشارة إلى أن له كمال التصرف ونفوذ القدرة وتمام السلطان، وإليه المفزع وهو المستعان، والمستغاث والملجأ والمعاد.
ولما كان الملك قد لا يكون إلهًا، وكانت الإلهية خاصة لا تقبل شركًا أصلًا بخلاف غيرها، أنهي الأمر إليها وجعلت غاية البيان فقال: {إله الناس} إشارة إلى أنه كما انفرد بربوبيتهم وملكهم لم يشركه في ذلك أحد، فكذلك هو وحده إلههم لا يشركه في إلهيته أحد، وهذه دائمًا طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بتوحيدهم له في الربوبية والملك على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، فمن كان ربهم وملكهم فهم جديرون بأن لا يتألهوا سواه ولا يستعيذوا بغيره كما أن أحدهم اذا دهمه أمر استعاذ بوليه من أبناء جنسه واستغاث به، والإله من ظهر بلطيف صنائعه التي أفادها مفهوم الرب والملك في قلوب العباد فأحبوه واستأنسوا به ولجؤوا إليه في جميع أمورهم، وبطن احتجابًا بكبريائه عن أن يحاط به أو بصفة من صفاته أو شيء من أمره، فهابته العباد ودعاهم الحب إلى الوله شوقًا إلى لقائه، وزجرتهم الهيبة فجزعوا خوفًا من طرده لهم عن فنائه، وكرر الاسم الظاهر دون أن يضمر فيقول مثلًا: {ملكهم} {إلههم} تحقيقًا لهذا المعنى وتقوية له بإعادة اسمهم الدال على شدة الاضطراب المقتضي للحاجة عند كل اسم من أسمائه الدال على الكمال المقتضي للغنى المطلق، ودلالة على أنه حقيق بالإعادة قادر عليها لبيان أنه المتصرف فيهم من جميع الجهات وبيانًا لشرف الإنسان ومزيد الاعتماد بمزيد البيان، ولئلا يظن أن شيئًا من هذه الأسماء يتقيد بما أضيف إليه الذي قبله من ذلك الوجه، لأن الضمير إذا أعيد كان المراد به عين ما عاد إليه، فأشير بالإظهار إلى أن كل صفة منها عامة غير مقيدة بشيء أصلًا، واندرج في هذه الاستعاذة جميع وجوه الاستع إذا ت من جميع وجوه التربية وجميع الوجوه المنسوبة إلى المستعيذ من جهة أنه في قهر الملك بالضم، وجميع الوجوه المنسوبة إلى الإلهية لئلا يقع خلل في وجه من تلك الوجوه تنزيلًا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات إشعارًا بعظم الآفة المستعاذ منها، ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة، والمقصود الاستعاذة بمجموع هذه الصفات الواقعة على ذات واحدة حتى كأنها صفة واحدة، وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب على حد سواء، فلا فعل لأحد إلا وهو خلقه سبحانه وتعالى وهو الباعث عليه، وأخر الإلهية لخصوصها لأن من لم يتقيد بأوامره ونواهيه فقد أخرج نفسه من أن يجعله إلهه وإن كان في الحقيقة لا إله سواه، ووسط صفة الملك لأن الملك هو المتصرف بالأمر والنهي، وملكه لهم تابع لخلقه إياهم فملكه من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه، وملكه يستلزم إلهيته وتقتضيها، وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، فإن الرب هو القادر الخالق إلى غير ذلك مما يتوقف الإصلاح والرحمة والقدرة التي هي معنى الربوبية عليه من أوصاف الجمال، والملك هو الآمر الناهي المعز المذل- إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى العظمة والجلال، وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل فيه جميع الأسماء الحسنى، فلتضمنها جميع معاني الأسماء كان المستعيذ جديرًا بأن يعوذ، وقد وقع ترتيبها على الوجه الأكمل الدال على الوحدانية، لأن من رأى ما عليه من النعم الظاهرة والباطنة، علم أن له مربيًا، فإذا تغلغل في العروج في درج معارفه سبحانه وتعالى علم أنه غني عن الكل، والكل إليه محتاج، وعن أمره تجري أمورهم، فيعلم أنه ملكهم، ثم يعلم بانفراد بتدبيرهم بعد إبداعهم أنه المستحق للإلهية بلا مشارك له فيها، فقد أجمع القراء في هذه السورة على إسقاط الألف من {ملك} بخلاف الفاتحة كما مضى لأن الملك إذا أضيف إلى {اليوم} أفهم اختصاصه بجميع ما فيه من جوهر وعرض، وأنه لا أمر لأحد معه ولا مشاركة في شيء من ذلك، وهو معنى الملك- بالضم، وأما إضافة المالك إلى الناس فإنها تستلزم أن يكون ملكهم، فلو قرئ به هنا لنقص المعنى، وأطبقوا في آل عمران على إثبات الألف في المضاف وحذفها من المضاف إليه لأن المقصود بالسياق أنه سبحانه وتعالى يعطي الملك من يشاء ويمنعه من يشاء، والملك- بكسر الميم- أليق بهذا المعنى، وأسرار كلام الله سبحانه وتعالى أعظم من أن تحيط بها العقول، وإنما غاية أولي العلم الاستدلال بما ظهر منها على ما وراءه، وأن باديه إلى الخافي يشير.
ولما أكمل الاستعاذة من جميع وجوهها التي مدارها الإحسان أو العظمة أو القهر أو الإذعان والتذلل، ذكر المستعاذ منه فقال: {من شر الوسواس} هو اسم بمعنى الوسوسة كالزلزال بمعنى الزلزلة، والمراد بالموسوس، سمي بفعله مبالغة لأنه صفته التي هو غاية الضراوة عليها كما بولغ في العادل بتسميته بالعدل، والوسوسة الكلام الخفي: إلقاء المعاني إلى القلب في خفاء وتكرير، كما أن الكلمة الدالة عليها (وس) مكررة، وأصلها صوت الحلي، وحديث النفس، وهمس الكلاب، ضوعف لفظه مناسبة لمعناه لأن الموسوس يكرر ما ينفثه في القلب ويؤكده في خفاء ليقبل، ومصدره بالكسر كالزلزال كما قال تعالى: {وزلزلوا زلزالًا شديدًا} [الأحزاب: 11] وكل مضاعف من الزلزلة والرضرضة معناه متكرر، والموسوس من الجن يجري من ابن آدم مجرى الدم- كما في الصحيح، فهو يوسوس بالذنب سرًا ليكون أجلى، ولا يزال يزينه ويثير الشهوة الداعية إليه حتى يواقعه الإنسان، فإذا واقعه وسوس لغيره أن فلانًا فعل كذا حتى يفضحه بذلك، فإذا افتضح ازداد جرأة على أمثال ذلك لأنه يقول: قد وقع ما كنت أحذره من القالة، فلا يكون شيء غير الذي كان، وشره التحبيب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه حتى يشاكله في رذيلة الطبع وظلمة النفس، فينشأ من ذلك شرور لازمة ومتعدية أضرها الكبر والإعجاب اللذان أهلكا الشيطان، فيوقع الإنسان بها فيما أوقع نفسه فيه، وينشأ من الكبر الحقد والحسد يترشح منه بطر الحق- وهو عدم قبوله، ومنه الكفر والفسوق والعصيان، وغمص الناس- وهو احتقارهم المعلوم من قول الشيطان {أنا خير منه} [الأعراف: 12] ومنه تنشأ الاستهانة بأولياء الله تعالى بترك احترامهم ومنع حقوقهم والاعتداء عليهم والظلم لهم، ويترشح من الحقد الذي هو العداوة العظيمة إمساك الخير والإحسان وبسط اللسان واليد بكل سوء وإيذاء، ويترشح من الحسد إفساد ذات البين كما يشير إليه {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة} [الأعراف: 20] الآية والكذب والمخادعة كما عرف به {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور} [الأعراف: 21] ويترشح عن الإعجاب التسخط للقضاء والقدر كما آذن به {قال أأسجد لمن خلقت طينًا} [الإسراء: 61] ومقابلة الأمر بالعلم بما أشعر به {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال} [الحجر: 33]، واستعمال القياس في مقابلة النص بما هدى إليه {أنا خير منه} [الأعراف: 12] الآية، واستعمال التحسين والتقبيح بما أفهمه {لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} والإذلال وهو الجرأة على المخالفات فينشأ عن ذلك شرور متعدية، وهي السعي في إفساد العقائد والأخلاق والأعمال والأبدان والأرزاق، ثم لا يزال يتحبب إلى الإنسان بما يميل إليه طبعه من هذه الخبائث وهو يوافقه فيها حتى يصير له أخلاقًا راسخة، فيصير رديء الطبع فلا ينفع فيه العلاج، بل لا يزيده إلا خبثًا كإبليس، ومن كان أصله طيبًا واكتسب ما يخالفه بسبب عارض كان ممكن الإزالة كالعلاج كما وقع لآدم عليه الصلاة والسلام.
ولما كان الملك الأعظم سبحانه لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، وكان قد جعل دواء الوسوسة ذكره سبحانه وتعالى، فإنه يطرد الشيطان وينير القلب ويصفيه، وصف سبحانه وتعالى فعل الموسوس عند استعمال الدواء إعلامًا بأنه شديد العداوة للإنسان ليشتد حذره منه وبعده عنه فقال: {الخناس} أي الذي عادته أن يخنس أي يتوارى ويتأخر ويختفي بعد ظهوره مرة بعد مرة، كلما كان الذكر خنس، وكلما بطل عاد إلى وسواسه، فالذكر له كالمقامع التي تقمع المفسد، فهو شديد النفور منه، ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلًا كما ورد عن بعض السلف أن المؤمن ينفي شيطانه كما ينفي الرجل بعيره في السقر، قال البغوي: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على يمين القلب يحدثه، فإذا ذكر الله خنس، وإذا لم يذكر الله رجع ووضع رأسه- خزاه الله تعالى.
ولما ذكر صفة المستعاذ منه، ذكر إبرازه لصفته بالفعل فقال: {الذي يوسوس} أي يلقي المعاني الضارة على وجه الخفاء والتكرير بحيث تصل مفاهيمها من غير سماع، وأشار إلى كثرة وسوسته بذكر الصدر الذي هو ساحة القلب ومسكنه فقال: {في صدور الناس} أي المضطربين إذا غفلوا عن ذكر ربهم، فإنها دهاليز القلوب منها تدخل الواردات إليها، وذلك كالقوة الوهمية فإن العقل يساعد في المقدمات الحقة المنتجة للأمر المقطوع به، فإذا وصل الأمر إلى ذلك خنست الواهمة ريثما يفتر العقل عن النتيجة فترة ما، فتأخذ الواهمة في الوسوسة وتقبل منها الطبيعة بما لها بها من مجانسة الظلمة الوهمية، والناس- قال في القاموس: يكون من الإنس ومن الجن، جمع إنس أصله أناس جمع عزيز أدخل عليه أل- انتهى، ولعل إطلاقه على هذين المتقابلين بالنظر إلى النوس الذي أصله الاضطراب والتذبذب فيكون منحوتًا من الأصلين: الانس والنوس، ومن ثالث وهو النسيان.
ولما كان الذي يعلّم الإنسان الشر تارة من الجن وأخرى من الإنس، قال مبينًا للوسواس تحذيرًا من شياطين الإنس كالتحذير من شياطين الجن، مقدمًا الأهم الأضر، ويجوز أن يكون بيانًا لـ: {الناس} ولا تعسف فيه لما علم من نقل القاموس: {من الجنة} أي الجن الذين في غاية الشر والتمرد والخفاء {والناس} أي أهل الاضطراب والذبذبة سواء كانوا من الإنس أو الجن، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض كما هم مسلطون على الإنس أو الجن، فيكون المعنى أن الجن مسلط بعضهم على بعض كما هم مسلطون على الإنس، فيدخل شيطان الجن في الجني كما يدخل في الإنسي ويوسوس له- قاله البغوي عن الكلبي، وقال: ذكر عن بعض العرب أنه قال: جاء قوم من الجن فوقفوا فقيل: من أنتم؟ قالوا: أناس من الجن، قال: وهذا معنى قول الفراء.
وقد ختمت السورة بما بدئت به، والمعنى الثاني أوفق برد آخرها على أولها فإنه يكون شرحًا للناس الذين أضيفت لهم الصفات العلى، والخواطر الواردة على الإنسان قد تكون وسوسة، وقد تكون إلهامًا، والإلهام تارة يكون من الله بلا واسطة، وتارة يكون بواسطة الملك، ويكون كل منهما في القلب، والوسوسة تارة من الشيطان، وأخرى من النفس، وكلاهما يكون في الصدر، فإن كان الإنسان مراقبًا دفع عن نفسه الضار، وإلا هجمت الواردات عليه وتمكنت منه ويتميز خير الخواطر من شرها بقانون الشرع على أن الأمر مشكل، فإن الشيطان يجتهد في التلبيس، فإن وافق الشرع فلينظر، فإن كان فعله ذلك الحين أولى من غير تفويت لفضيلة أخرى هي أولى منه بادر إليه وإن كان الخاطر دنيويًا وأدى الفكر إلى أنه نافع من غير مخالفة للشرع زاد على شدة تأمله الاستشارة لمن يثق بدينه وعقله، ثم الاستخارة لاحتمال أن تتوافق عليه العقول، ويكون فيه خلل لتقصير وقع في النظر، وقد جعل بعضهم قانون الخاطر الرحماني أن ينشرح له الصدر ويطمئن إليه النفس، والشيطاني والنفسي أن ينقبض عنده الصدر وتقلق النفس بشهادة الحديث النبوي في البر والإثم، ويعرف الشيطاني بالحمل على مطلق المخالفة، فإن الشيطان لا غرض له في مخالفة بعينها، فإن حصل الذكر زال ذلك، والنفساني ملزوم شيء بعينه سواء كان نفعًا أو ضرًا، ولا ينصرف عنه بالذكر، وقد يكون الشيطان إنسيًا من أزواج وأولاد ومعارف، وربما كان أضر من شيطان الجن، فدواؤه المقاطعة والمجانبة بحسب القدرة، ومن أراد قانونًا عظيمًا لمن يصاحب ومن يجانب فعليه بآية الكهف {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا} [الكهف: 28] وكما رجع مقطعها على مطلعها كذلك كان من المناسبات العظيمة مناسبة معناها للفاتحة ليرجع مقطع القرآن على مطلعه، ويلتحم مبدؤه بمرجعه على أحسن وجه، كما تقدم بيان ذلك من سورة قريش إلى هنا سورة سورة، فنظر هذه السورة إلى الفاتحة والتحامها بها من جهة أن الفاتحة اشتملت على ثلاثة أسماء: الله والرب والملك، وزادت بكونها أم القرآن بالرحمن الرحيم، لاشتمالهما على جميع النعم الظاهرة والباطنة التي تضمنتها صفة الربوبية، وسورة الناس على الرب والملك والإله الذي هو الأصل في اسم الجلالة، واختصت الفاتحة بالاسم الذي لم يقع فيه شركة أصلًا، فلما تقرر في جميع القرآن أنه الإله الحق، وأنه لا شركة لغيره في الإلهية يحق بوجه من الوجوه كما أنه لا شركة في الاسم الأعظم الذي افتتح به القرآن أصلًا بحق ولا بباطل، ختم القرآن الكريم به معبرًا عنه بالإله لوضوح الأمر وانتفاء اللبس بالكلية، وصار الاختتام مما كان به الافتتاح على الوجه الأجلى والترتيب الأولى، وبقي الاسمان الآخران على نظمهما، فيصير النظم اذا ألصقت آخر الناس بأول الفاتحة (إله ملك رب الله رب- رحمن رحيم ملك) إعلامًا بأن مسمى الأسم الأعظم هو الإله الحق، وهو الملك الأعظم لأنه له الإبداع وحسن التربية والرحمة والعامة والخاصة، وحاصل سورة الناس الاستعاذة بهذا الرب الموصوف من وسوسة الصدر المثمرة للمراقبة كما أن حاصل سورة الفاتحة فراغ السر من الشواغل المقتضي لقصر الهمم عليه سبحانه وتعالى والبقاء في حضرته الشماء بقصر البقاء عليه والحكم بالفناء على ما سواه، وذلك هو أعلى درجات المراقبة، فإذا أراد الحق إعانة عبد حمله على الاستعانة بالاستعاذة فيسر عليه صدق التوكل، فحينئذ يصير عابدًا صادقًا في العبودية فيكون إلهه سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وينبغي أنه كلما زاده سبحانه وتعالى تقريبًا ازداد له عبادة حتى ينفك من مكر الشيطان بالموت كما قال تعالى لأقرب خلقه إليه محمد صلى الله عليه وسلم {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99] ومن نقص من الأعمال شيئًا اعتمادًا على أنه وصل فقد تزندق، وكان مثله مثل شخص في بيت مظلم أسرج فيه سراجًا فأضاء، فقال: ما أوقدت السراج إلا ليضيء البيت فقد أضاء، فلا حاجة لي الآن إلى السراج، فأطفأه فعاد الظلام كما كان، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى افتتاح القرآن بعد ختمه كما أشار إليه اتصال المعنى بما بينته، وسمي ذلك الحال المرتحل، وكأن القارئ ذكر بالأمر بالاستعاذة إرادة افتتاح قراءته، فكأنه قيل: استعذ يا من ختم القرآن العظيم لتفتتحه، وكأنه لما استعاذ بما أمر به في هذه السورة قيل له: ثم ماذا تفعل؟ فقال: أفتتح، أو أنه لما أمر بالاستعاذة قال: ماذا أفعل؟ فقيل: افتتح بسم الله الرحمن الرحيم الذي تجب مراقبته عند خواتم الأمور وفواتحها، لأنه لا يكون أمر إلا به، أو أن البسملة مقول القول في {قل} على سبيل من {أعوذ} أو بدل من {برب الناس} وكأنه أمر بالتعوذ، والتسمية أمر بالدفع والجلب، وذلك لأنه لما أمر بهذا التعوذ- وكان قد قال سبحانه: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] علم أن المراد ابتداؤه بالقرآن فنسبتها إلى الفاتحة نسبة المعلول إلى علته، فكأنه قيل: استعذ بهذا الرب الأعظم الذي لا ملك ولا إله غيره لأن له الحمد، وهو الإحاطة بكل شيء، فهو القادر على كل شيء، فهو القاهر لكل شيء في المعاد وهو الملجأ والمفزع لا إله إلا هو، فإن الاسم هو الوصف والمراد به الجنس، فمعنى بسم الله أي بوصفه أو بأوصافه الحسنى، والحمد هو الثناء بالوصف الجميل، فكأنه قيل: أعوذ برب الناس بأوصافه الحسنى لأن له الحمد وهو جميع الأوصاف الحسنى فإن البدء فيه يحتاج إلى قدرة، فله القدرة التامة، أو إلى علم فالعلم صفته، أو كرم فكذلك، والحاصل أنه كأنه قيل: تعوذ به من الشيطان بما له من الاسم الذي لم يسامه فيه أحد لكونه جامعًا لجميع الأسماء الحسنى أي الصفات التي لا يشوبها نقص خصوصًا صفة الرحمة العامة التي شملتني أكنافها، وأقامني إسعافها، ثم الرحمة الخاصة التي أنا أجدر الناس باستمطارها لما عندي من النقص المانع لي منها والمبعد لمن اتبع الحظوظ عنها، فأسأله أن يجعلني من أهلها، ويحملني في الدارين بوصلها، لأكون من أهل رضاه، فلا أعبد إلا إياه، ولك أن تقرر الاتصال والالتحام بوجه آخر ظاهر الكمال بديع النظام فتقول: لما قرب التقاء نهاية الدائرة السورية آخرها بأولها ومفصلها بموصلها اشتد تشاكل الرأسين، فكانت هذه السور الثلاثة الأخيرة مشاكلة للثلاث الأول في المقاصد، وكثرة الفضائل والفوائد: الإخلاص بسورة التوحيد آل عمران، وهو واحد، والفلق للبقرة طباقًا ووفاقًا، فإن الكتاب الذي هو مقصود سورة البقرة خير الأمر، فهي للعون بخير الأمر، والفلق للعوذ من شر الخلق المحصي لكل خير، وفي البقرة {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة: 67] {يعلمون الناس السحر} [البقرة: 102]- الآيات، {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم} [البقرة: 109] الآية، والناس للفاتحة، فإنه إذا فرغ الصدر الذي هو مسكن القلب الذي هو مركب الروح الذي هو معدن العقل كانت المراقبة، فكان ذلك بمنزلة تقديس النفس بالتوحيد والإخلاص، ثم الاستعاذة من كل شر ظاهر ومن كل سوء باطن للتأهل لتلاوة سورة المراقبة بما دعا إليه الحال المرتحل وما بعدها من الكتاب، على غاية من السداد والصواب، وكأنه اكتفى أولًا بالاستعاذة المعروفة كما يكتفي في أوائل الأمور بأيسر مأمور، فلما ختم الختمة جوزي بتعوذ من القرآن، ترقية إلى مقام الإحسان، فاتصل الآخر بالأول أيّ اتصال بلا ارتياب، واتحد به كل اتحاد- إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب، هذا ما يسره الله من مدلولات نظومها وجملها، بالنسبة إلى مفهوماتها وعللها، وبقي النظر إلى ما يشير إليه أعداد كلماتها، بلطائف رموزها وإشاراتها، فهي عشرون كلمة توازيها إذا حسبت من أول النبوة سنة عمرة القضاء وهي السابعة من الهجرة، بها تبين الأمن مما وسوس به الشيطان سنة عمرة الحديبية من أجل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم لدخول البيت والطواف به، فإذا ضممت إليها الضمائر الثلاث كانت ثلاثًا وعشرين فوازت السنة العاشرة من الهجرة وهي سنة حجة الوداع وهي القاطعة لتأثير وسواس الشيطان الذي كان في أول السنة الحادية عشرة عند موت النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب بأمر الردة، فأعاذ الله من شره بهمة الصديق رضي الله تعالى عنه حتى رد الناس إلى الدين وأنزل به وسواس الشياطين المفسدين، فانتظمت كلمة المسلمين تصديقًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع «إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب بعد اليوم» فإذا ضممت إليها كلمات البسملة صارت سبعًا وعشرين توازي سنة استحكام أمر عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه الذي ما سلك فجًا إلا سلك الشيطان فجًا غيره، وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة، هذا بالنظر إلى كلماتها، فإن نظرت إليها من جهة الحروف كانت لها أسرار كبرى من جهة أخرى، منها أن كلماتها مع كلمات الفاتحة انتظمت من ستة وعشرين حرفًا وهي ما عدا الثاء المثلثة والزاء الظاء المعجة من حروف المعجم التسعة والعشرين كل واحدة منهما من اثنين وعشرين حرفًا اشتركتا في ثمانية عشر منها، واختصت كل واحدة منهما بأربعة: الفاتحة بالحاء والطاء المهملتين، والضاد والغين المعجمتين، والناس بالجيم والخاء والشين المعجمتين والفاء، وقال ابن ميلق: سقط من الفاتحة سبعة أحرف (ثج خز شظف)، انتهى، فلعل في ذلك- والله أعلم- إشارة إلى أن- تكامل نزول القرآن من أوله إلى آخره في عدد الحروف التي اشتمل عليها كل من سورتي أوله وآخره من السنين وذلك اثنان وعشرون، والثالثة والعشرون سنة القدوم على منزله الحي القيوم سبحانه وتعالى ما أعظم شأنه، وأعز سلطانه، وأقوم برهانه.
وقال مؤلفه رحمه الله تعالى: وهذا تمام ما أردته من نظم الدرر من تناسب الآي والسور، ترجمان القرآن مبدي مناسبات الفرقان، التفسير الذي لم تسمع الأعصار بمثله، ولا فاض عليها من التفاسير على كثرة أعدادها كصيب وبله، فرغته في المسودة يوم الثلاثاء سابع شعبان سنة خمس وسبعين وثمانمائة، بمسجدي من رحبة باب العيد بالقاهرة المغرية، وكان ابتدائي فيه في شعبان سنة إحدى وستين، فتلك أربع عشرة سنة كاملة، وفرغته في هذه المبيضة عصر يوم الأحد عاشر شعبان سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة، بمنزلي الملاصق للمدرسة البادرائية من دمشق، فتلك اثنتان وعشرون سنة بعدد سني النبوة الزاهرة الأنيسة العلية الطاهرة المباركة الزكية، ولولا معونة الله أضحى معدومًا، أو ناقصًا مخرومًا، فإني بعد ما توغلت فيه واستقامت لي مبانيه، فوصلت إلى قريب من نصفه، فبالغ الفضلاء في وصفه بحسن سبكه وغزارة معانيه وإحكام رصفه، دب داء الحسد في جماعة أولي النكد، والمكر واللدد، يريدون الرئاسة بالباطل، وكل منهم من جوهر العلم عاطل، مدّ ليل الجهل فيهم ظلامه، وأثار نقع السفه على رؤوسهم سواده وقتامه، صوبوا سهام الشرور، والأباطيل وأنواع الزور، فأكثروا التشييع بالتشنيع، والتقبيح والتبشيع، والتخطئة والتضليل، بالنقل من التوراة والإنجيل، فصنفت في ذلك الأقوال القويمة، في حكم النقل من الكتب القديمة، بينت فيه أن ذلك سنة مستقيمة، لتأييد الملة الحنيفية العظيمة، وأخرجت بذلك نص الشافعي، وكلام النووي والرافعي، واستكتبت على الكتاب: العلماء الأنجاب، فكتبوا ما أودعته (مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور) فأطفأ الله نارهم، وأظهر عوارهم، وشهر خزيهم وعارهم، ثم قاموا في بدعة دائم المعروف، فصنفت فيها القول المعروف، وبينت مخالفتهم للكتاب والسنة، ووقوعهم في عين الفتنة، وخرقهم لأعظم الجنة، وصريح نص الشافعي ونقول العلماء، فكانوا كمن ألقم الحجر أو ملئ فمه بالماء، ثم قاموا في فتنة ابن الفارض، وكلهم معاند معارض، وألبوا على رعاع الناس، فاشتد شعاع البأس، فكادوا أن يطبقوا على الانعكاس، وصوبّوا طريق الإلحاد، وبالغوا في الرفع من أهل الاتحاد، ولجوا بالخصام في العناد، وأفتوا بمحض الباطل، وبثوا السم القاتل، إلا ناسًا قليلًا كان الله بنصرهم على ضعفهم كفيلًا، فسألتهم سؤالًا، جعلهم ضلالًا جهالًا، فتداولوه فيما بينهم وتناقلوه وعجزوا عن جوابه بعد أن راموه أشد الروم، وحاولوه فظهر لأكثر الناس حالهم، واشتهر بينهم ضلالهم، وغيهم الواضح ومحالهم، وصنفت في ذلك عدة مصنفات، بانت فيها مخازيهم وظهرت المخبآت، منها (صواب الجواب للسائل المرتاب) ومنها (القارض لتكفير ابن الفارض)ومنها(تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض)ومنها(تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي) ومنها (تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد) أنفقت فيها عمرًا مديدًا، وبددوا فيها أوقاتي- بددهم الله تبديدًا، وهدد أركانهم وأعضادهم تهديدًا، وقرعتهم بالعجز عن الجواب، الكاشف للارتياب، صباحًا ومساءً، وإعادة وإبداء، فحملهم التقريع، والتوبيخ والتبخيع، على كتابة جواب، لم يخل من ارتجاج واضطراب، وشك وارتياب، بينت أن جامعه أخطأ في جميعه الصواب، وكفر في أربعة مواضع كفرًا صريحًا، وكذب في ثمانية فصار بذلك جريحًا، بل هالكًا طريحًا، فأطلت بذلك التقريع، والتوبيخ والتبشيع، فذلت أعناقهم، وضعف شقاقهم، وخفي نفاقهم، غير أنه حصل في كل واحدة من هذه الوقائع، من الشرور وعجائب المقدور، ما غطى ظلامه الشموس الطوالع.
قال ذلك منشبه أحوج الخلائق إلى عفو الخالق أبو الحسن إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي الشافعي رحمه الله تعالى قائلًا: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا إلى يوم الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان الفراغ من هذا الجزء على يد أقل عبيد الله وأحوجهم إلى لطف الله وعفوه عبد الكريم بن علي بن محمد المحولي الشافعي نزيل بلد الله الحرام- غفر الله له ولوالديه ولمشايخه وللمسلمين-... بمكة المشرفة في يوم السبت المبارك السادس والعشرين من شهر صفر الخير سنة أربع وأربعين وتسعمائة، وقد تجاوز سني الآن خمسة وسبعين عامًا- أسأل الله حسن الخاتمة والثبات على دين الإسلام والوفاة بأحد حرميه بمنه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا دائمًا أبدًا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقال بعض تلامذة المصنف وهو العرس خليل بن موسى المقرئ مادحًا للكتاب المذكور المسمى بـ: (لما):
برهان دين الله أضحى موضحًا ** أسرار قول الله في القرآن

وأتى بما ترك الورى من بعده ** تمشي الورا أبدًا مدى الأزمان

فمن ادعى نسجًا على منواله ** فقد ادعى ما ليس في الإمكان

وإذا المفسر رام يومًا أنه ** بمثاله يأتي بلا إذعان

قلنا له فسر وقايس بعد ذا ** ولنا الدليل عليك بالبرهان

وكان الفراغ من نسخ هذا النصف الأخير من الكتاب المسمى بـ: (لما) مناسبات القرآن العظيم على من أنزل عليه أفضل الصلاة والسلام في الليلة الثالثة عشرة من شهر جمادى الأولى من شهور سنة سبع وتسعين وألف على يد أحقر العباد، وأحوجهم إلى مغفرة ربه الجواد، محمد بن أحمد البدرشيني بلدًا، الشافعي مذهبًا، مصليًا ومسلمًا على أفضل وأكمل وأجمل خلق الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأهل بيته الطيبين الطاهرين صلاة وسلامًا دائمين متلازمين بدوام ملك الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل آمين آمين.
إن تلق عيبًا فلا تعجل بسبك لي ** إني امرؤ لست معصومًا من الزلل

.اهـ.